همسة تربوية
حتى لا ينقطع المعروف بين الناس
البعض من الناس إن لم يكن معظمهم يغضب مع الآخرين أحياناً ويرد الصاع بصاعين حين يظلمه أحد، في المقابل هناك بعضٌ يسامح على الخطأ، هؤلاء النوع من النفر الكريم هم أصحاب البصمة المميزة التي تبقى وإن غاب صاحبها، فأرقى النفوس هي التي تجرعت الألم فتجنبت أن تذيق الآخرين مرارته، ولنرتق بكلماتنا ولا نرفع أصواتنا، فالأمطار هي التي تُنبِتُ الزهور لا الرعد، والدنيا رخيصة وكلنا قد يملكها غنياً وفقيراَ وملكاَ ووزيراً ولكن الجنة غالية إن لم تملكها بصالح أعمالك، فلن تملكها بمالك وجاهك وسلطانك.
كان لأبي حنيفة جار يشرب الخمر ويغني دائماً ويقول: (أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا) إلى أن يأخذه الليل فينام، ويردد هذه الأغنية باستمرار، وكان ذلك يزعج أبا حنيفة في كل ليلة ويمنعه النوم، وفي ذات يوم رجع أبو حنيفة إلى بيته كالعادة ولم يسمع صوت جاره، فسأل عنه وقال له أهله: لقد ارتحنا منه، فالرجل عليه دين وتم سجنه بسبب دينه، فقام أبو حنيفة من فراشه ليساعده ويخرجه من السجن بحكم علاقة الجوار، ثم خرج إلى صاحب الدَّين وسدد دينه، وذهب إلى السجن وتحدث إلى السجان ليخرجه بعد سداد دينه، وبالفعل أخرجه السجان، فأمسك أبو حنيفة بيد جاره وهو يمشي به إلى بيته، فالتفت إليه أبو حنيفة، وقال له: هل أضعناك نحن؟ فقال له: لا، بل حفظت ورعيت الجوار، ثم تاب الرجل وصار من تلاميذ أبي حنيفة ومن الذين لا يفارقونه أبداً، وهذا كله بمجرد دراهم معدودة سُدِّدت له، فالإسلام أمر بالإحسان حتى لغير المسلم، إذاً نتيجة صبر أبي حنيفة على جاره والإحسان إليه جعله لا يفارقه، فقمة الصبر أن تسكت وفي قلبك جُرحٌ يتكلم.
أيضاً تحضرني قصة اليهودي جار الرسول صلى الله عليه وسلم، حين كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم برمي الشوك والقاذورات عند بيته، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزيح القاذورات عن منزله ولم يقل شيئاً كعادته، وفي ذات مرة لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأوساخ بداره، فذهب يتفقد جاره فوجده مريضاً، دخل صلى الله عليه وسلم على جاره اليهودي وتمنى له الشفاء، فسأل اليهودي الرسول صلى الله عليه وسلم: كيف عرفت أني مريض؟ قال له: بمجرد أني لم أجد القاذورات التي ترميها عند باب بيتي، فبكى اليهودي بكاءً شديداً من طيب أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فنطق بالشهادتين ودخل في دين الإسلام، فماذا نحن فاعلون عندما تحل بنا المصائب ويشتد بنا الغضب؟ كما تحضرني أيضاً مقولة لابن القيم في ذات السياق، حين قال: (اصدق مع الله فإذا صدقت عشت بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيك ما تحذره ولطفه يرضيك بما يقدره)، إذن لنتحلَّ بالأخلاق النبيلة والسلوك القويم لنحسن التعامل مع الآخرين، كما تحضرني قصة لفارس عربي كان في الصحراء على ظهر فرسٍ له، فوجد رجلاً تائهاً يعاني من العطش، فطلب الرجل من الفارس أن يسقيه الماء، فقام بذلك، صمت الرجل قليلاً، فشعر الفارس أنَ هذا الرجل المسكين يخجل بأن يطلب الركوب معه، فقال له الفارس: هل تركب معي أوصلك إلى حيث تُريد؟ فقال الرجل: أنت رجلٌ كريم حقاً، شكراً لك، كنت أود طلب ذلك لكن خجلي منعني، ابتسم الفارس وحاول الرجل الصعود لكنه تظاهر بأنه لن يستطع وقال: أنا لست بفارس، فأنا فلاح لم أعتد ركوب الفرس فيمكنك أن تساعدني في الركوب، اضطر الفارس الى أن ينزل كي يستطيع مساعدة الرجل على ركوب الفرس، وما أن صعد الرجل على الفرس حتى ضرب الفرس وهرب بها كأنه فارس محترف، أيقن الفارس أنه تعرض لعملية سطو وسرقة، فصرخ بذلك الرجل، اسمعني يا هذا.. اسمعني..أرجوك إسمعني، فقال له من بعيد، ما بك؟
فقال الفارس: لا تخبر أحداً بأنك ضحكت عليَ وأخذت فرسي، فقال له اللص: ولماذا؟ أتخاف على سمعتك؟ فرد الفارس: لا، ولكنني أخشى أن ينقطع الخير ويضيع المعروف بين الناس، فالخير والنخوة شيمة الفرسان، وأخاف ألا يقدم أحدٌ بمجرد معرفته بهذه القصة.
أخيراً إذا فشلت في رفع أحد لمستوى درجة أخلاقك، فلا تدعه ينجح في إنزالك لمستوى أخلاقه، ولا تندم إطلاقاً على أنك عاملت الآخرين بقلب نقي ونية صافية، فإن الله سوف يجزيك على قدر نيتك وسوف يجازيهم على قدر نواياهم، ولنكن كالنخلة التي يرميها الناس بالحجارة، فترمي أطيبَ الثمرِ، ومن أجمل ما قرأت، قال غاندي:
(رماني الناس بالحجارة فجمعتها وبنيت بيتاً)
د. عبدالله إبراهيم علي أحمد
خبير المناهج وطرق تدريس اللغة الإنجليزية
us_abdo@hotmail.com